في تجربة الفنان " احمد نصيف "

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
14/04/2008 06:00 AM
GMT



الجدار مشهدا للرؤية والأقدام تمضي عابرة تتجول بصمت

لمدة تجاوزت العقد، تواصل الفنان " أحمد نصيّف " على إدامة أداء صوري في لوحاته، يصف موضوعا كان قد استل من ملمح بيئي " الاهوار "، ومثّل دلالته وكفايته التعبيرية معا. فضاء لوني متقشف، قليل التضاد، مشغول بمعالجة غير متكلفة، تتصف بالاختزال والتبسيط. لتحيل تكوين العمل الفني الى مساحات لونية متجاورة، فيما أشكال قاتمة تخترق الأفق وتحضر بوصفها كائنات تعيش وجودها على نحو غامض، بل وتتكفل بالتعريف عن نفسها على نحو تجريدي وغير متعين. لطالما اكتفى " أحمد " في تجربته تلك، بمشهد غير تشخيصي، تغيب فيه الرموز والإشارات،من اجل ما يوحي به من انطباع جمالي، رهيف، شديد الحساسية، يكاد الموضوع معه يتحول الى لحظة تلق عابرة، لكنها تدعو لمعاودة الاستجابة لها، بأثر خبرة خاصة غير مكتشفة بعد.
دربة هذا الفنان على صناعة المشهد الفني بكونه احتياجا جماليا، أكثر منه تضمينا لمعنى، سوف تطبع تجربته الجديدة، اللاحقة. انها بالاداء ذاته، ولكن بصياغة تقنية قادرة على اختبار مدى حريتها كاملة. والرؤية هنا عينها، تدل على موضوعها عن بعد، الا انها تتصف به، تلازمه دون الاشارة المباشرة إليه. ولكن، ما يبقى مختلفا هو طبيعة المشهد ومغزاه.
في تجربته السابقة، كان يحتفظ بما يصرح به. مشهد هو تمثيل لذاكرة تسكن في الماضي، مارست أحلامها في مكان أليف ووادع. وهي شغوفة كذلك بإعادة افتراضه كأنه ملاذ يقيم في لحظة كائنة في الجنوب، حيث السكينة تأخذك مثل رمز هنيء، والمسافات تمتد حتى حافة الأسطورة. فيما الحكاية تطل على دهشتها. والخيال يتخذ أوضاعا صامتة كأنه الشجن.
في لوحاته تلك، كانت ضربات الفرشاة تستبقي أيضا، هاجس حنين يمكن ان نلمسه بأطراف أناملنا.
ولكن مثل هذه التجربة لم تعد كما كانت، لقد تبدلت الأمكنة وتغيرت معها اهتماماتنا. ان الفنان يسكن في مدينة محتلة. ومشاهد ما يحصل فيها تدعو الى التفكير بقوة في ملامح حاضرها. ومن أقساها، الأسلاك الشائكة وتلك الجدران المؤلفة من دعامات خراسانية، والتي باتت تمنعنا من ان نطل على واجهة غاب فيها أفقها. ونحن، ما عادت لدينا تلك الدعة والدهشة التي تبقينا كي نقف، نتأمل ما نرى. لذا ليس أمامنا الا ان نمضي بخطى مسرعة، لنجتاز هذه الصخور المنتظمة بلونها الرمادي، الكابي، وارتفاعها المستطيل. انها تثقل القلب والعين معا.
أصبحت هذه الدعامات أذن، بديلا عن مشاهد المدينة، ومعها تحولت ذاكرتنا اليومية الى جردة حساب: كم مرة اجتزنا طرقا تحفها هذه الجدران؟.
ولكن ما الذي يثيره كل ذلك: الاعتراض..!!.
تبقى تجربة الفنان " احمد نصيف " لا تشابه تجربة رسوم جدران الشوارع، والتي خلفتها تيارات ما بعد الحداثة. فالأمر هنا لا يشير الى تعليقات ساخطة، أو محاكاة ساخرة لأحداث وأوضاع غريبة في مدينة صاخبة، بل التعبير عن مشهد صادم، هو اشد كتمانا وأكثر صمتا. انها ليست سوى واجهات خرساء تمارس فعلا مفارقا. انك حين تنظر إليها تجدها تحجب عنك النظر.
ولكن الفنانين لا يطيقون التباساً مثل هذا. لذلك نجدهم يستدرجون ما يشغلهم الى حيز يستدعون فيه خبرتهم،ويعيدون تضمينها في تجاربهم. إنهم يحملون الموضوعات الى مشاغلهم، لا ليتفكروا فيها بل ليحققوها. هكذا يتحول أي معنى بالنسبة لهم الى ذريعة للرؤية.
لتلك الأسباب يستحضر" احمد " الفن في واقعة يومية، ويعلنها مغامرة جمالية بامتياز. يقترح المشهد كما يتمنى ان يراه،مؤلفا من معالجات تجريبية، بأداء تقني، يكون اللون خلاله وسيطا تعبيريا، يختبر حضور الأشكال ودلالتها بضربات سريعة للفرشاة. وكأن الأمر عملية تدوين ليوميات فنان في مدينة.
في لوحاته، هنالك توصيف صوري لخيال يفترض للواقع معنى آخر. ما أبقته الذاكرة من مشاهد شاردة في فضائها، ولكنه لا يحاكي، لا يقلد، بل يتمثل شيئا نقيضا، هو الحرية. رؤية كهذه لابد من انها تقيم في الجهة المضادة.
وتجربة احمد تكمن في هذه الجدلية، في متعتها، في كونه أحال واجهات صماء الى مشهد مفعم بالخيال والحرية والجمال معا.